جلسات ملتقى مستقبل الإعلام والاتصال من حرب غزة إلى الذكاء الاصطناعي والتحديات القانونية في الفضاء الرقمي

بوست نيوز :-
بعد حرب الإبادة على غزة إسقاط حكومة نتنياهو هدف رئيسي
فضائيات المستقبل بين الذكاء الاصطناعي والإبداع البشري
التحديات القانونية في الفضاء الرقمي.. بين حماية الحقوق وتقييد حرية التعبير
تواصلت في ملتقى مستقبل الإعلام والاتصال المنعقد في عمّان جلسات نقاشية متزامنة، سلّطت الضوء على ثلاثة محاور محورية؛ السيناريوهات المحتملة لمستقبل الداخل الفلسطيني بعد حرب الإبادة على غزة، والتحديات القانونية المتنامية في الفضاء الرقمي، والبحث في آفاق الفضائيات في زمن الذكاء الاصطناعي.
بعد حرب الإبادة
عُقدت جلسة بعنوان “سيناريوهات الداخل الفلسطيني بعد حرب الإبادة على غزة” شارك فيها المحاضر في العلوم السياسية جمال زحالقة والباحثة في التغيير الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني بالداخل مها كركبي، وأدارتها الإعلامية هديل النماس.
أكدت الباحثة مها كركبي أن الحركة الصهيونية فشلت في بناء كيان يتجاوز حدوده الداخلية، مشيرةً إلى أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية التعامل مع الفلسطينيين الذين بقوا داخل ما يُسمى بدولة إسرائيل. وقالت إن المشروع الصهيوني ارتكز منذ بداياته على إقامة دولة يهودية خالصة، ما جعل مسألة المواطنة إشكالية بنيوية، إذ تأسست الدولة على صراع قومي عميق ومتصاعد مع الشعب الفلسطيني.
وبيّنت أن هذا الصراع انعكس مباشرة على الفلسطينيين في الداخل الذين جُرّدوا من أراضيهم وممتلكاتهم عبر منظومة القوانين الإسرائيلية؛ فخسرت عائلات بأكملها كل ما تملك، فيما حُوِّلت قرى كاملة إلى مناطق عسكرية مغلقة. وأضافت أن هناك فارقًا صارخًا بين المواطنة الشكلية الممنوحة للفلسطينيين داخل إسرائيل، وبين واقعهم الفعلي القائم على التمييز والإقصاء.
وفي سياق تداعيات الحرب الأخيرة على غزة، أوضحت كركبي أن العدوان غيّر جذريًا مفهوم المواطنة الإسرائيلية؛ فبينما كان الداخل الإسرائيلي منشغلًا سابقًا بقضايا “الانقلاب القضائي” وحدود الديمقراطية، جاءت الحرب لتُعمّق الانحيازات البنيوية في الدولة. مشيرةً إلى أن مجرد إبداء التعاطف مع الفلسطينيين بات يُجرَّم ويؤدي إلى الفصل من العمل، ما يكشف عن انكماش واسع في الفضاء الديمقراطي، وترسيخ متسارع لمنطق قومي يحدد مكانة الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل.
وأضافت أن الفلسطينيين فقدوا بعد الحكم العسكري مواطنتهم العملية، إذ حُرموا من الأرض والهوية والقيادة التقليدية، وتحولت عائلات بأكملها إلى حالات من التجريد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. واستُخدمت القوانين والمؤسسات لانتزاع الملكيات، وتحوّلت قرى إلى مناطق مغلقة، فيما جرى تقليص الاقتصاد الفلسطيني المستقل وتشكيل طبقة وسطى محدودة مرتبطة بالسوق الإسرائيلي، ما أضعف قدرة المجتمع على الحفاظ على استقلاله وهويته. وخلصت إلى أن هناك سياسة منهجية لتقويض التجذّر الفلسطيني عبر أدوات قانونية واجتماعية واقتصادية تُكرّس واقعًا يصعب معه تحقيق الاستقلال الاقتصادي وصون الهوية.
أما المحاضر جمال زحالقة فشدّد على أن التهجير هو جوهر الحرب الإسرائيلية، معتبرًا أن العدوان على غزة يستهدف فرض واقع جديد يقوم على منع السكان من العودة إلى بيوتهم. موضحًا أن إسرائيل حشدت ما يقارب مئة ألف جندي ليس فقط لمواجهة المقاومة، وإنما لتنفيذ سياسة التهجير القسري ومنع أي إمكانية للعودة.
وأضاف أن الخطاب الإسرائيلي يتجاهل تمامًا حق العودة وينحصر في العمليات العسكرية الميدانية، مؤكّدًا أن ما يجري هو إبادة جماعية ممنهجة وتهجير منظم ضد سكان غزة، بما يحمله من تداعيات بعيدة المدى.
وأكد زحالقة أن الحركة الفلسطينية في الداخل المحتل ستشهد تحوّلًا دراماتيكيًا في دورها السياسي خلال المرحلة المقبلة، بحكم موقعها الاستراتيجي داخل الكيان. مبينًا أنَّ تجزئة الشعب الفلسطيني تبقى العقبة الأخطر، الأمر الذي يجعل من توحيد الصف الوطني وبناء قوة سياسية موحّدة قادرة على تحويل التمثيل الشعبي إلى تأثير مؤسسي ضرورة ملحّة، بما في ذلك انتزاع عدد وازن من مقاعد الكنيست لمواجهة سياسات اليمين المتطرف. وقال إن إسقاط حكومة نتنياهو أصبح هدفًا رئيسيًا على أجندة العمل الفلسطيني.
فضائيات المستقبل
فيما ناقشت جلسة بعنوان “تعالوا نتخيل.. فضائيات المستقبل في ظل الذكاء الاصطناعي” التحولات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على الإدارة الإعلامية، والسلبيات، والتحديات التي تواجه الإعلام. وشارك فيها المدير العام لقناة المملكة جعفر الزعبي، ومدير برامج قناة الغد هادي جعفر، ويسّرتها الإعلامية روز السوقي.
وقدّم هادي جعفر للحضور رؤيته استنادًا إلى خبراته الطويلة في تطوير البرامج الإعلامية وإدارة المحتوى على المنصات الفضائية، موضحًا أن الفضائيات تواجه اليوم خطرًا كبيرًا، لكنه ليس الأول من نوعه، فقد سبق أن واجهت موجة منصات التواصل الاجتماعي التي شكلت تهديدًا لصورة الفضائيات، باعتبار أن تنافسها يعتمد بشكل كبير على قوة الصورة. قائلًا “اليوم مع وجود الذكاء الاصطناعي، الخطر أصبح في الإنتاج وتخصيص الصورة، وبالتالي نحن نواجه تهديدًا جديدًا، وتواجهه جميع الفضائيات العالمية”.
وأكد أن قدرة الفضائيات على التكيف هي العامل الحاسم، فالمشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في قدرة المؤسسات الإعلامية على التكيف مع هذا “المخلوق الجديد”، كما وصفه. وبيّن أن استخدام الذكاء الاصطناعي بدأ قبل عام 2010، لكن قدرة الفضائيات على التكيف معه في عمليات التحقيق والتوزيع هي ما سيحدد ميزتها التنافسية.
وأشار جعفر إلى أن الميزة التفاضلية للفضائيات تكمن في المهنية والاحترافية، مؤكّدًا ضرورة الاستثمار في الطاقة التحريرية المتميزة والمهارات البشرية، التي تمنح الفضائيات القيمة سواء على الشاشات أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وأضاف أن التحديات المقبلة ليست بعيدة المدى، فهناك استثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي على مستوى الدول العربية والأجنبية، بما في ذلك الولايات المتحدة، بينما تختلف التقديرات حول تكلفة بناء نماذج متقدمة، ما يزيد من حالة التخبط في آليات الاستثمار وسبل الاستفادة الفعلية.
وأوضح جعفر أن الذكاء الاصطناعي يمتلك مزايا عملية للقطاع الإعلامي، فهو يسرّع عمليات الإنتاج ويخفض زمن تنفيذ مهام كانت تستغرق أيامًا أو أسابيع لتصبح ممكنة في ساعات، ما يعزز قدرة الوسائل التقليدية على المنافسة مع ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي ويفتح آفاقًا جديدة لصناعة المحتوى. وأضاف أن الذكاء الاصطناعي يتعلم منّا، فكلما كان أداء الصحفيين أذكى وأكثر وعيًا، كانت النتائج أفضل. والهدف هو تطوير مزيج متكامل من أدوات ذكية مدعومة بالمهارات البشرية لضمان الاستفادة من الإمكانيات دون فقدان المصداقية أو سلامة المحتوى، مؤكّدًا أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل الصحفيين.
وشدّد على أن الذكاء الاصطناعي لن يلغي التحقق البشري أو دور الإنسان، بل سيختفي الصحفي التقليدي غير المبتكر، الذي يكتفي بنقل الأخبار كما هي من الوكالات. مضيفًا أنَّ الصحفي الشامل هو من يحضّر ويحرر ويوزع المحتوى، ومع إمكانية تقليل عدد الأشخاص في غرف الأخبار، يبقى المطلوب ارتفاع الكفاءات.
وبيّن جعفر أن بعض الوظائف قد تختفي لصالح الذكاء الاصطناعي، مما يثير التساؤل حول “من سيعمل؛ الإنسان أم الروبوت؟”، لكن التطور يفرض السرعة والدقة في التعامل مع الأدوات، ويظل دور الصحفي أساسيًا في التحرير والتحقق من المصادر والتقصي، وهي مهام لا يمكن للذكاء الاصطناعي استبدالها.
من جانبه، قال المدير العام لقناة المملكة جعفر الزعبي إن قدرة التكيف تختلف من وسيلة إعلامية إلى أخرى؛ فالتلفاز يمتاز بصعوبة إنتاجه مقارنة بالصحيفة أو الراديو، لكنه أصبح أسهل وأسرع بفضل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. مضيفًا أن النجاح يعتمد على عاملين أساسيين؛ المحتوى والتكنولوجيا، فالمؤسسة أو القارئ القادر على الدمج بينهما يحقق الاستمرارية، وكلما زادت مهارات الصحفي وخبراته، زادت فرصه في التوظيف والنجاح، إلا أن المحتوى يبقى هو الأساس.
وأشار إلى أن الذكاء الاصطناعي يقدم إمكانيات واسعة، لكنه يحمل مخاطر كبيرة، إذ يمكن لأي شخص الحصول على إجابة جاهزة من النظام وتقديمها على أنها نتاج أبحاثه دون معرفة مصدرها أو مدى مصداقيتها. موضحًا أن العالم يشهد سباقًا هائلًا في الاستثمار بالذكاء الاصطناعي، مع اختلاف التكاليف والتقديرات بين الدول، مثل الصين التي أعلنت أن تكلفة تدريب أحد أنظمة التعلم العميق لم تتجاوز 300 ألف دولار، ما يعكس تفاوتًا عالميًا في آليات الاستثمار.
وأكد الزعبي أن الهدف الأهم هو الاستفادة الإيجابية من الذكاء الاصطناعي، فهو قادر على تلخيص المحاضرات، وإنتاج المحتوى، ومساعدة المؤسسات الإعلامية على تطوير عملها، مع التأكيد على أن المحتوى هو الملك، وهو ما يصنع الفارق مهما تقدمت التكنولوجيا. وبيّن أن الذكاء الاصطناعي بدأ بتجارب مذيعين يقرؤون أخبارًا بلغة ركيكة، ثم تطوّر ليصل اليوم إلى مستويات تفوق قدرات بشرية معروفة، وفق قوله.
التحديات القانونيّة
وانعقدت جلسة حوارية بعنوان “التحديات القانونية في الفضاء الرقمي” وشارك في النقاش المديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية هديل عبد العزيز، والمحامي المتخصص في القوانين السيبرانية والحقوق الرقمية عمرو نزال، ويسّرت الجلسة المحامية نور الإمام.
واستعرضت المديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية هديل عبد العزيز تجربة مركز العدل في إعداد دراسة بالتعاون مع مؤسسات مجتمع مدني قبل إقرار قانون الجرائم الإلكترونية عام 2023؛ إذ أُطلقت حملة واسعة للتحذير من المخاطر حول القانون، ومع ذلك لم تنجح هذه الجهود رغم العمل التعاوني مع أحزاب ونقابات وأفراد.
وأشارت إلى أن القانون تضمن نصوصًا فضفاضة وانتقائية في التطبيق، إضافة إلى عقوبات وغرامات غير مسبوقة مستوحاة من التجربة الإماراتية، مع فارق كبير في مستويات المعيشة والدخل. ورغم توجّه الأردن نحو تقليل العقوبات السالبة للحرية والحد من الاكتظاظ في السجون، جاء القانون مبالغ في العقوبات، بل وأدخل نصوصًا جديدة مثل محاسبة مديري الصفحات على التعليقات أو تجريم جمع التبرعات إلكترونيًا.
ووصفت عبد العزيز التعديلات التي أُدخلت لاحقًا على القانون بالـ”محدودة”، إذ ظل القانون يغلّظ العقوبة على انتقاد السلطة العامة ولا يميز بين الشخص العام والعادي، مما يترك مساحة واسعة للانتقائية. مضيفةً أن الممارسات على الأرض عززت القلق، خصوصًا مع التوسع في التوقيف قبل المحاكمة.
كما شددت على أن منصات التواصل الاجتماعي بخوارزمياتها تعزز خطاب الكراهية والمحتوى المثير للغضب، ما يستدعي تنظيمًا يحد من الممارسات الضارة دون تقييد الحق في التعبير، وفي الوقت نفسه، دعت إلى تجريم أشكال الإساءة مثل الابتزاز واغتيال الشخصية. ذاكرةً ضرورة التركيز على الحق المجتمعي في المساعدة القانونية، وأن مركز العدل يسعى لتوفير هذه المساعدة لجميع الفئات، خصوصًا في مرحلة ما قبل المحاكمة التي تعتبر هي الأهم. .
من جانبه، أكد المحامي المتخصص في القوانين السيبرانية والحقوق الرقمية عمرو نزال أن قانون الجرائم الإلكترونية جاء ليقيد حرية الرأي والتعبير، وهو ما أثبتته الممارسات بعد سنتين من تطبيقه، إذ سادت حالة من الرقابة الذاتية لدى النشطاء والصحفيين نتيجة غموض النصوص وتوسعها التجريمي.
وأوضح أن بعض الجرائم صُنّفت كـ”جنح” لا تخضع لرقابة محكمة التمييز، ما يعني غياب ضمانة رقابية عليا. كما بيّن أن الإشكالية الأساسية تكمن في غياب معايير واضحة تحدد ما هو النقد المباح، خصوصًا فيما يتعلق بمصطلحات مثل “الأخبار الكاذبة” أو “اغتيال الشخصية”، التي ما زال القضاء عاجزًا عن وضع ضوابط دقيقة لها.
وأضاف نزّال أن الخطابات ليست كلها مباحة، فالدول ملزمة بموجب الاتفاقيات الدولية بمنع خطاب الكراهية ووضع حدود له. لكن هذا المنع يجب أن يستند إلى معايير متوازنة تحافظ على الحقوق الأساسية ولا تتحول إلى أداة لتقييد حرية التعبير. وأكد أن أي تشريعات محلية يجب أن تعكس المعايير والممارسات الدولية، وأن تضع حدودًا واضحة بين ما يعد خطابًا يهدد السلم المجتمعي وما يدخل في إطار النقد المشروع.
وبدأت فعاليات الملتقى في دورته الثالثة بمشاركة أكثر من 750 إعلاميًا وإعلامية وناشطًا وصانع محتوى وخبيرًا إلى جانب ممثلين عن مؤسسات دولية من مختلف أنحاء العالم.
الملتقى الذي أطلقه مركز حماية وحرية الصحفيين قبل عامين، يطرح هذا العام عبر جلساته الممتدة على مدار يومين قضايا محورية تتعلق بحماية الصحفيين وواقع الحريات الإعلامية، إلى جانب التحديات التي تواجه المهنة في ظل النزاعات والأزمات. كما يناقش سبل بناء القدرات والاحتراف المهني في زمن أصبحت فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي جزءًا رئيسيًا من صناعة الإعلام، فضلًا عن قراءة تحولات المشهد السياسي في المنطقة وانعكاساتها على الساحة الإعلامية.